التعريف بالابحاث المكانية
في الوقت الذي تتجه مختلف العلوم الى استحداث تفرعات تخصصية دقيقة لها ، فانها تميل في الوقت نفسه الى التجمع حول موضوعات تمثل اهتماما مشتركا مع غيرها ، ولهذا تشكلت اقساما وكليات علمية بتسميات جديدة مثل : دراسات بيئية (علوم بيئية) ، دراسات الاسكان ، دراسات ديموغرافية ، علوم مكانية . وقد تبع ذلك إعادة النظر في الهيكلية التنظيمية للعديد من الجامعات لتجمع التخصصات المتقاربة مع بعضها تحت ادارة موحدة Faculty نتيجة تكاملها المعرفي و توحيدا لمنهجها البحثي و تسهيلا لخدماتها الادارية .
تضم علوم المكان Spatial Sciences طيفا واسعا من التخصصات العلمية ، مثل الجيولوجيا و التفرعات الهندسية المختلفة ، و العلوم السياسية ، والبيئة والتنمية والجغرافية . ونتيجة تلاقي اهتمامات هذه التخصصات في المكان فقد تطورت تقنيات تعتمد المكان اساسا لها في جمع المعلومات وخزنها في قواعد بيانات مكانية و التحليل المكاني . فالاهتمام المشترك بالموضوع قد أدى الى تعاون لتطوير ادوات و استحداث ما يحتاجه الباحث ويسهل عمله ، وبالمحصلة النهائية تقارب وجهات النظر و توحيد الاتجاه البحثي .
نتيجة ذلك ظهر ما يعرف بالتقنيات المكانية ، التي تضم التحليل المكاني
Spatial Analysis الذي يعتمد في ما يعتمده الاحصاء المكاني Spatial Statistics
و الاحصاء الجغرافي – المكاني Geospatial Statistics والمنظور المكاني
Spatial Approach . وكذلك تكونت نظم قواعد بيانات مكانية ، رافقتها برمجيات تعتمد المكان اساسا لها مثل نظم المعلومات الجغرافية والجيوماتيكا و الاستشعار عن بعد و غيرها .
ولتطوير هذا المنحى العلمي الجديد و للافادة من هذه التقنيات تشكلت مجموعات
و وحدات ومراكز ومعاهد بحثية تخصصية تعنى بها ، مثل : مركز التحليل المكاني في جامعة اوكلوهاما ، مركز تكامل العلوم الاجتماعية المكاني في جامعة كاليفورنيا ، ومجموعة التحليل المكاني في جامعة كاردف ، ومثلها في جامعة موناش ، ومعهد التخطيط المكاني في جامعة دورتموند التقنية ، والعديد غيرها . لقد حل مصطلح (المكاني) بدلا عن (الجغرافي) وعن (الحضري والاقليمي) في العديد من التسميات .
ولا ينكر ، أن للجغرافيا حضور فاعل في جميع هذه النشاطات العلمية ، ولأن المكان مرتبط في ذهن الكثيرين بالجغرافيا ، ولأن العديد من الادبيات تتعامل مع مصطلحي (المكاني
و الجغرافي) كمرادفين لبعضهما البعض يمكن استبدالهما ببعض لذا جاء الخلط بين ما هو مكاني وما هو جغرافي . ولتوضيح الفرق بينهما سأعتمد أمثلة من الواقع .
من هنا جاءت فكرة استحداث وحدة بحثية تعنى بالمكان (في العراق الوحدة البحثية توازي قسم علمي) ، ونعمل جاهدين لتحويلها الى مركز بحثي (يوازي كلية علمية – وله حق استحداث دراسات عليا) . استحدثت وحدة الابحاث المكانية في مطلع عام 2008 ، و اقامت دورات تعريفية وتدريبية في نظم المعلومات الجغرافية ، و عقدت حلقات نقاشية (سمنرات) لمناقشة موضوعات وبتخصصات علمية منوعة . كما عقدت مؤتمرها الاول في شهر اكتوبر 2008 تحت عنوان (تنمية المكان هدف العلوم جميعا) ، وكان مؤتمرها الثاني في شهر اكتوبر 2009 تحت عنوان (المنزل مكان يستحق الدراسة من قبل الجميع) . ومن المنظور المكاني فان محاور المؤتمر يمكن أن تكون ، أي أن يدرس المنزل علميا من الزوايا الاتية :-
1- المحور المعماري والهندسي والتخطيطي
2- المحور البيئي (ايكولوجية المنزل و الحي السكني) ((وبالامكان التركيز على بيئة المطبخ او الحمام او غرف النوم مثلا وأثرها على حياة الساكنين))
3- محور البيئة الاجتماعية (للعائلة و لمجتمع المحلة)
4- المحور التربوي (الربط بين المحاور الثلاث اعلاه مع المعطيات التعليمية – التربوية)
5- المحور النفسي والسلوكي (كذلك)
6- المحور الصحي (كذلك)
7- المحور القانوني
باشتراك الباحثين من تخصصات علمية مختلفة بدراسة المنزل ( كمكان – كموضوع) فان احتمالات تشكيل فرق عمل بحثية متداخلة التخصصات وارد جدا ، وما يتبع ذلك من تقارب وجهات النظر وتبادل المعرفة والتقنية وبالتي تحقيق نظرة شمولية عميقة للموضوع . وهذا هو الهدف من استحداث الوحدات والمراكز البحثية المكانية و المتداخلة التخصصات.
هنا يدرس المكان بطريقة اعمق واشمل من الدراسة الجغرافية (على أهميتها) ويؤدى الى نتائج اكثر قربا لصانعي القرار ، واعمق فائدة للمجتمع . وبالامكان اعتماد أي مكان له تميزه
و حضوره في حياة الانسان موضوعا للدراسة المعمقة الشاملة ، مثل : المدرسة ، الجامعة ، النادي الرياضي ، المنتدى الاجتماعي ، السوق ، المعمل ، الشارع ، والعديد غيرها .
ومثال عن الدراسة المكانية ، فقد قامت جامعة تكريت عام 1995 بدراسة ريادية لقرية ربيضة التابعة الى ناحية العلم ، اشتركت الاقسام العلمية للجامعة باكملها في دراسة القرية كل من زاوية نظره و تخصصه ولكن بمنظور اكتشاف المشكلات لتقديم الحلول لها ، منظور تطبيقي – تخطيطي . وجاء الفصل الاخير من الدراسة ليعطي صورة دقيقة شاملة لوضع القرية الاجمالي وذلك من خلال الافادة من الوارد في فصول (لكل كلية او قسم فصل في الدراسة) الدراسة وبنظرة شمولية تكاملية وقراءة لما وراء السطور . لقد كانت دراسة تطبيقية – متداخلة التخصصات حيث لم يستثنى أي قسم علمي من المشاركة فيها .
لقد حظيت قرية ربيضة دون غيرها بدراسة معمقة شاملة وبفريق عمل كبير ضم جميع التدريسيين في جامعة تكريت حينها . وقدم كل قسم علمي ، اضافة الى الدراسة ، الخدمات التي يمكن ان يقدمها مباشرة الى مجتمع القرية . هذا نموذج حقيقي لدراسة مكانية ، ولكن عندما يحال الموضوع الى طالب دراسات عليا في قسم الجغرافية لدراسة القرية اقليميا ، فالفرق بين رغم انه قد يغطي العديد من المحاور التي وردت في الدراسة . الفرق الجهد هنا فردي و المنظور جغرافي . الجغرافيا تدرس انتظام الاشياء في فضاء المكان دون دراسة المكان لذاته . انها تدرس ملامح شخصية المكان دون الغوص في مكامن الشخصية وعناصر تكوينها .
لقد درست بعقوبة من قبل اكثر من جغرافي ومن زوايا مختلفة ، والان لو اردنا دراسة (بعقوبة كمكان) فالمحاور التي يمكن ان تشملها الدراسة هي :-
1) الوضع الجغرافي (الطبيعي والبشري)
2) بعقوبة عبر التاريخ (كمكان)
3) شخصيات من أبناء المدينة (سياسية و علمية وأدبية و فنية)
4) الوضع البيئي في المدينة
5) الخدمات المجتمعية في المدينة
6) التركيب الاجتماعي – الحضاري لسكان المدينة
7) الأساس الاقتصادي للمدينة
8) الحركة الادبية والفنية في بعقوبة
9) مشكلات تعاني منها المدينة
وكلا الموضوعين آنفي الذكر (المنزل و مدينة بعقوبة) يتحمل كل واحد منهما عقد مؤتمرا علميا كبيرا لتغطية المحاور بشمولية وعمق ، ولكن عند تحجيم الدراسة بالمعطيات الجغرافية فان اي منهما يغطي العديد من المحاور بشفافية دون الغوص بعمق في اي منها . وهذا هو الفرق بين دراسة المكان و دراسة جغرافية المكان .
وبالامكان ربط دراسة بعقوبة بالتنمية أو البيئة فيكون عنوان المؤتمر ((التنمية المستدامة لمدينة بعقوبة : الامكانات و الآفاق)) ، أو ((بيئة مدينة بعقوبة : مشكلات ومعالجات)) ، أو ((الأبعاد المكانية للتغيرات السكانية في مدينة بعقوبة بعد 2003 و آثارها الاقتصادية والاجتماعية و التخطيطية )) وجميع هذه الموضوعات متداخلة التخصصات ومعمقة و مهمة جدا ، تعتمد الاطار الجغرافي لتتجاوزه و تغوص في اعماقه ، لتعطي المكان حقه .
في ضوء ما تقدم ، يمكن القول بأن وحدة الابحاث المكانية هدفها دراسة المكان بشمولية و عمق ، و دراستها تبقى مجزوءة عندما لا تتشكل فرق عمل متعددة التخصصات لتدرس موضوعات بطبيعتها المتأصلة فيها متداخلة التخصصات . وتضم الوحدة ملاك بحثي ثابت و يتفرغ للعمل فيها عدد من الباحثين من كليات جامعة ديالى للعمل جزئيا (لمدة يوم في الاسبوع) . والوحدة الان في صدد انجاز مشروع اطلس مدينة بعقوبة .
أملي أن يكون هذا الايجاز كافيا للتعريف بوحدة الابحاث المكانية ، وبابا للتعاون العلمي ، لما فيه خير الجميع والله ولي التوفيق .